الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أيده ربه بالبينات، والحجج القاطعات، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
قال: الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1].
شاء الله الذي لا راد لمشيئته سبحانه القادر الذي لا يعجزه شيء أن يمن على حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام برحلة مباركة طيبة هي الإسراء والمعراج.
فما الإسراء والمعراج؟ وما صفته؟ وما الدروس المستفادة منه؟
أما الإسراء: فهي رحلة أرضية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس.
أما المعراج: فهي رحلة سماوية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من بيت المقدس إلى السماوات العلا ثم إلى سدرة المنتهى ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه.
عن أنس بن مالك t قال: قال: رسول الله r: {أُتِيْتُ بِالْبُرَاقِ -وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيضُ طَوِيْلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُوْنَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَىَ طَرْفِهِ- قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّىَ أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِيْ يَرْبِطُ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلّيْتُ فِيْهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَتُ فَجَاءَنِيْ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ الْسَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ الْلَّبَنَ، فَقال: جِبْرِيْلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ...}. (مسلم) الحلقة: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس.
وعَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ t قَالَ: قال النَّبِيُّ r: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ –وَذَكَرَ [يعني الرجل] بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ- فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ الْبُرَاقُ.
فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قيل: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقال: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ.
فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ. قيل: مَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ r. قيل: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ. قيل: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقَالاَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ.
فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قيل: جِبْرِيلُ. قيل: مَنْ مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ. قيل: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ يُوسُفَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قال: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ.
فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قيل: جِبْرِيلُ. قيل: مَنْ مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ r. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قيل: نَعَمْ. قيل: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقال: مَرْحَبًا مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ.
فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبْرِيلُ. قيل: وَمَنْ مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ. قيل: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْنَا عَلَى هَارُونَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقال: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ.
فَأَتَيْنَا عَلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ r. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى، فَسَلَّمْتُ {عَلَيْهِ}، فَقال: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ. فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى. فَقيل: مَا أَبْكَاكَ؟ قال: يَا رَبِّ، هَذَا الْغُلاَمُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي. فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، قيل: مَنْ هَذَا؟ قيل: جِبْرِيلُ. قيل: مَنْ مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ. قيل: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقال: مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقال: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلاَلُ هَجَرٍ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقال: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَىَّ خَمْسُونَ صَلاَةً، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جِئْتُ مُوسَى، فَقال: مَا صَنَعْتَ قُلْتُ فُرِضَتْ عَلَىَّ خَمْسُونَ صَلاَةً. قال: أَنَا أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ، عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ. فَرَجَعْتُ فَسَأَلْتُهُ، فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ ثُمَّ ثَلاَثِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عِشْرِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عَشْرًا، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقال: مِثْلَهُ، فَجَعَلَهَا خَمْسًا، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقال: مَا صَنَعْتَ قُلْتُ جَعَلَهَا خَمْسًا، فَقال: مِثْلَهُ، قُلْتُ سَلَّمْتُ بِخَيْرٍ، فَنُودِيَ إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَأَجْزِي الْحَسَنَةَ عَشْرًا». البخاري (3207) و{3393، 3430، 3887} ومسلم (434) وزاد قبل فرض الصلاة: «ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالآخَرُ لَبَنٌ فَعُرِضَا عَلَىَّ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقيل: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلاَةً».
كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته -عليه السلام- إلى المدينة، وقد اختلف في تعيين زمن هاتين الحادثتين على أقوال شتى:
1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبري.
2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي.
3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة.
4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهراً، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.
5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.
6- وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.
وردَّت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة -رضي الله عنها- توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء. (الرحيق المختوم (ص: 160)).
فلما رجع رسول الله r من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك، فقال: لهم في مجلسٍ حضرَه الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: {إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى وعيسى، وصليت بهم وكلمتهم} فقال: عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: "أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد أشعر تعلوه صُهْبَة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. أما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقاً وخُلقاً". [التاريخ الإسلامي للحميدي (3/38، 39). صُهْبة: بياض بحمرة] الدر المنثور 5/208 وعزاه لأبي يعلى وابن عساكر.
فقالوا: يا محمد! فصف لنا بيت المقدس، قال: "دخلت ليلاً وخرجت منه ليلاً" فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: "باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا".
ثم سألوه عن عيرهم، فقال: لهم: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جُوالِق مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية "ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أَوْرَق، وها هي تطلع عليكم من الثَّنِيَّة"، فقال: الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال. [المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/201- 204)، وعيون الأثر (1/140-142)، وابن هشام (2/11). الجوالق: هو العدل الذي يوضع فيه المتاع. أورق: أي لونه أبيض وفيه سواد. الثنية: الطريق الجبلي].
وسعى بعض الناس إلى أبي بكر الصديق t، فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
قال: أو قال: ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال: ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق. [المستدرك (3/62) قال: الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي].
فوائد ودروس وعبر:
1- بعد كل محنة منحة، فقد تعرض رسول الله r لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف، وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها، من كل جانب، وأصبح الخطر يحدق بالنبي r بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله r ماض في طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ، وحان الوقت للمحنة العظيمة، فجاءته حادثة الإسراء والمعراج، على قد من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعاً، ويكرمه على صبره وجهاده، ويكلمه دون واسطة، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيد واحد، فيكون الإمام والقدوة لهم، وهو خاتمهم وآخرهم. [التربية القيادية (1/447)].
2- إن الرسول r كان مُقدِماً على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى للَّبِنات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص، الذين لمسوا عياناً صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقاً، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم، وهم حول هذا النبي r المصطفى، وقد آمنوا به، وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوار، وبعد أذى الصبيان والسفهاء. [التربية القيادية (1/451)].
3- إن شجاعة النبي r العالية، تتجسد في مواجهته للمشركين، بأمر تنكره عقولهم، ولا تدركه في أول الأمر تصواراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقي نكيرهم واستهزائهم، فضرب بذلك r لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق، أمام أهل الباطل، وإن تحزبوا ضد الحق، وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكانت من حكمة النبي r في إقامة الحجة على المشركين، بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تُلزم الكفار بالتصديق، وهذه العلامات هي:
- وصف النبي r بيت المقدس، وقد أقروا بصدق الوصف، ومطابقته للواقع الذي يعرفونه.
- إخباره عن العير التي بالروحاء.
- إخباره عن العير الثانية.
ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر، نزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريباً على الإنسان العادي، فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي r. [التاريخ الإسلامي للحميدي (3/41 -43)].
5- إن شرب رسول الله r اللبن حين خيِّر بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل -عليه الصلاة السلام- هُديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية، التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية، خلق لها هذا الدين، الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويُحقق طموحاتها، ويكبح جماحها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم: 30.
6- صلاة النبي r بالأنبياء إماما لها دلالتان:
أ- وحدة الأنبياء في دعوتهم فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وما جرى في اليهودية والنصرانية من الانحراف إنما هو بفعل أيديهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]. فقد سلموا له بالقيادة، والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وَسعَ أتباعَ هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءهم؛ أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته، التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفها.
ب- أن النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعد رسول الله r ولا رسالة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
فعلى من يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان، أن يُدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع من الديانات المحرفة.
والإيمان بهذا الرسول r ورسالته.
وأن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة، التي تخدم وضعاً من الأوضاع، أو نظاماً من الأنظمة الجاهلية.
وأن هذا المسجد إسلامي خالص، ولا يَمُتُّ إلى أي تُراثٌ آخرَ.
7- إن الربط بين المسجد الأقصى، والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد، منها:
- أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم r، ومعراجه إلى السموات العلى، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلين، بأن يحبوا المسجد الأقصى، وفلسطين لأنها مباركة ومقدسة.
- الربط يشعر المسلمين بمسئوليتهم نحو المسجد الأقصى، بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضاع الشرك، وأهل عقيدة التثليث، كما هي أيضاً مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضاع الشرك وعبادة الأصنام.
- الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى، هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النَّيل من المسجد الأقصى، توطئة للنَّيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود، يعني أن المسجد الحرام، والحجاز قد تهدد الأمن فيهما، واتجهت أنظار الأعداء إليهما للاعتداء عليهما واحتلالهما.
والتاريخ قديماً وحديثاً يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية، يخبرنا أن أرناط الصليبي صاحب مملكة الكرك، أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول r، على جثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون النصارى الكاثوليك في بداية العصور الحديثة، الوصول إلى الحرمين الشريفين، لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك، وكذا العثمانيون، حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي، وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك، احتلال الحجاز، وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله r وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود، بعد دخول الجيش اليهودي القدس، يستعرض جنوداً وشباباً من اليهود، بالقرب من المسجد الأقصى، ويلقي فيهم خطاباً نارياً، يختتمه بقوله: لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب. [السيرة النبوية لأبي فارس (ص: 214)].
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية، والأردن، وسورية، والعراق، ومصر، واليمن، والكويت، والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بُعيد انتصارهم في حرب 1967م في أوربا. [جريدة الدستور الأردنية العدد (4313) بقلم: أميل الغوري، نقلاً عن السيرة النبوية لأبي فارس (ص: 214)].
فمكة رمز للإسلام لدين الله عز وجل وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين فما يجري على هذه الأرض هي علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم فلا بُد َّ أن تعود إلى زعامة هذا البيت إلى أمة محمد بن عبدالله r ولا يتحرر إلا بأيد متوضأة طاهرة كريمة. كي يكتب الله لها النصر والتأييد مصداقا للحديثِ عنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ r: «لَتُقَاتِلُنَّ الْيَهُودَ، فَلَتَقْتُلُنَّهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ». (مسلم)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ». (مسلم).
8- أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: فالصلوات الخمس فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه r إلى السماوات، وفي هذا كما قال: ابن كثير: اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمته [تفسير ابن كثير (3/23)]، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله r قبل موته. [المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/93)، والسيرة النبوية للصلابي (1/273-277)].
9- مكانة الجهاد للأمة: فقد اطلع النبي r: (على أهل الجنة واطلع على أهل النار، اطلع على أهل الجنة فأري رجالا يزرعون يوما ويحصدون يوما كلما حصدوا عاد الزرع كما كان قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله يخلف الله عليهم ما أنفقوا)) (دلائل البيهقي)، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ:39]. «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». (متفق عليه).
وأمتنا عندما تركت الجهاد عندما ظنت على الله عز وجل بمالها بأنفسها سلط الله عليها ذلا ليس بعده ذل أن أراذل خلق الله عز وجل يسوقونها: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:64]. قال: ابن كثير: ((من فوقكم أي الصواعق ومن تحت أرجلكم أي أن يسلط عليكم أراذلكم)) (مختصر ابن كثير مجلد ص 587).
10- المؤمن لا ينكر قدرة الله المطلقة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. [يس:82]. فالمؤمن الجاد في إيمانه لا ينكر أبدا إمكانية الإسراء والمعراج وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى أنزل عبدين من عباده من السماء إلى الأرض ورفع عبدا من عبيده من الأرض إلى السماء أنزل آدم وزوجه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38]. ورفع عيسى عليه السلام: {إِذْ قال: اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. فكيف نستكثر على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يعرج به مولاه؟
المؤمن يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى وهب عبدا من عباده القدرة على نقل عرش ملكة سبأ من جنوب اليمن إلى أرض فلسطين في غمضة عين: {قال: يَآ أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قال: عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قال: الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:38-40]. فإذا كانت هذه قدرة عبد فكيف بخالقه وإذا كانت هذه إمكانية موهوب فكيف بالواهب سبحانه؟
إن من الحقائق العلمية أن القوة تتناسب تناسبا عكسيا مع الزمن فكلما زادت القوة قل الزمن، فكيف إذا كانت القوة هنا هي قوة الحق سبحانه؟ لذا جاء في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام أًسري به وعرج وعاد وفراشه لم يزل دافئا عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجنبنا معاصيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد الله رب العالمين مع تحياتي عازفة الاوتار :فقغف54: